في أزقّة القابون العتيقة، ووسط حصارٍ خانق، كان بشير القاضي واحدًا من أولئك الرجال الذين إذا ذُكروا في المجالس اقترن ذكرهم بالرجولة والشهامة والوفاء. كان من عناصر كتيبة البدر، عرفه أهله وأبناء منطقته بصلابته وجرأته وحرصه على الحق، حتى إن بعض من التحقوا بالثورة لم يسلموا من فتنة المال، أما هو، فكان لا يقترب منه ويقول: "هذا المال ليس من حقي، إنه مال حرام، ولن آخذ منه شيئًا ولو متُّ جائعًا".

هكذا عاش، وهكذا استُشهد، طاهر اليد، نقيّ القلب، ثابتًا على مبادئه. كان معروفًا بين الجميع بلقبه أبو النار الذي ألقي الرعب في قلوب أعدائه.

بشير ينال شرف الشهادة وهو يدافع عن أهله وأرضه

وفي يوم الثلاثاء، 12 أيلول 2012، نال بشير شرف الشهادة وهو يدافع عن أهله وأرضه. لم يكن الوقت وقت وداع، فقد ضاقت القابون بأهلها، وكانت التربة محاصرة ومجال الدفن محدودًا، فاضطر رفاقه إلى دفنه مؤقتًا في أرضٍ تابعة لعائلة طعمة قرب مطحنة القابون.

وفي اليوم التالي، جاء والده وعمه ليُخرجوا جثمانه الطاهر ويغسلوه ويدفنوه كما يليق ببطل مثله، فنقلوه إلى مشفى المجتهد بدمشق، غير أن ما حدث هناك فاق كل التصورات.

ما إن وصل جثمانه حتى تعرف عليه الشبيحة، وأوقفوا والده وعمه قائلين بوقاحة: "هذا بشير القاضي، ثالث المطلوبين في القابون، وأي حركة أو كلمة زائدة، لن يخرج أحد من هنا، لا هو ولا أنتم".

كاد الأمر ينتهي بمجزرة، لولا أن الله هيّأ أحد وجهاء الشام، وكان له من الوجاهة والكلمة ما جعل الشبيحة يتراجعون عن نيتهم، ويسمحون للعائلة بأخذ الجثمان.

عادوا به إلى القابون، ولكن تحت عيون القناصة المحيطين بالتربة من كل جهة، فرض النظام وقتها حظرًا مشددًا، وسمح لخمسة رجال فقط أن يشاركوا في دفن الشهيد، وسط تهديد علني:

"أي إطلاق نار، سنصفيكم جميعًا".

ورغم كل ذلك، دُفن بشير بصمت، لكن روحه علت عالية، شاهدة على ثباته، وصموده، ونظافة يده.

مضى بشير، لكن بقي اسمه حيًّا في قلوب أهله وأصحابه وكل من عرفه، بطلًا صادقًا، ما خان ولا باع، ولم يخَف إلا من ربّه.

رحمك الله يا بشير القاضي، وأسكنك فسيح جناته مع الشهداء والصالحين.