كان زكريا آبيل رجلاً لم يعرف التردد، لم يفكر للحظة في مغادرة حيّه القابون منذ اندلاع الثورة، رغم كل المخاطر التي كانت تحيط به. شهد جميع معارك الحي، عاش تفاصيل الحصار والقصف، وكان صامدًا، ثابتًا لا تهزه الرصاصات ولا القذائف. لكنه لم يكن يعلم أن قناصًا يتربص له قرب منزله عند جامع الشيخ جابر، قناص لم يكن يراه، لكنه كان يراه، ليطلق عليه رصاصة غادرة استقرت في ظهره، لتشله تمامًا وتجعله أسيرًا لعجزه، بعدما كان من أشجع الرجال.
نُقل زكريا إلى المستشفى، حيث عاش أيامه الأخيرة محاصرًا مع أهل القابون حتى عام 2017، حين أُجبر الجميع على الخروج قسرًا نحو إدلب ضمن قوافل التهجير. قيل للمصابين إنهم سيُنقلون إلى مشافي تركيا لاستكمال العلاج، وكانت هذه الوعود هي الأمل الأخير لزكريا. صعد إلى سيارة الإسعاف معتقدًا أنه في طريقه للعلاج، لكنه لم يكن يعلم أنه في طريقه إلى الجحيم.
اختفت سيارات المصابين تمامًا، ولم يصل أيٌّ منهم إلى إدلب. بقيت العائلة في ظلمة القلق والترقب لأشهر، لا خبر عنه، لا أثر، حتى جاء اتصال غريب على هاتف زوجته: "زكريا موجود في مشفى المجتهد، تعالوا وخذوه."
هرعت العائلة إليه، لكنها لم تكن تتوقع ما رأت. وجدوا زكريا مرميًا أمام المشفى، جسدًا منهكًا، هيكلاً بلا لحم، عيناه غائرتان، ووجهه يحمل أثر العذاب الذي تعرض له. حاولوا إبقاءه في المشفى للعلاج، لكنهم رفضوا رفضًا قاطعًا. لم يُفتح له أي باب للعلاج مرة أخرى، وكأن الموت كان قد كُتب عليه منذ اللحظة التي اقتاده فيها الجلادون إلى مصيره المجهول.
وحين تمكن من الكلام، حكى لهم عن الجحيم الذي عاشه. أخذوه بسيارات الإسعاف بحجة العلاج، لكنه لم يصل إلى أي مستشفى، بل كان مصيره قبوًا مظلمًا تحت أحد المشافي، حيث تُرك هناك لأشهر بلا طعام أو شراب أو حتى ثياب تستره. كان مرميًا على الأرض، لا يستطيع الحراك بسبب إصابته، وكانوا يقدمون لهم لقيمات كل ثلاثة أيام، بالكاد تُبقيهم أحياء.
بقي صامدًا حتى آخر لحظة
كان جسده يتآكل ببطء، جلده يتعفن، وعظامه تبرز من أسفل ظهره حتى قدميه. لم يكن هناك من يرحمهم، لم يكن هناك من يسمع صرخاتهم في العتمة. وعندما خرج، كان الدود ينهش جسده، والدماء تسيل ممتزجة بالصديد من جروحه المتعفنة. لم يعد لديه سوى شهر واحد في هذه الحياة، شهر من العذاب المستمر، حتى فارقها أخيرًا، ليسلم روحه إلى بارئها.
لكن قلبه لم يفارق ولديه الصغيرين، ظلّ حتى آخر أنفاسه يذكرهما، ظلّت عيناه تبحث عنهما كأنه يريد أن يراهما مرة أخيرة، لكنه رحل قبل أن يحتضنهما من جديد.
زكريا آبيل، الرجل الذي رفض مغادرة القابون، كان يعرف أن الخروج من الحيّ ليس دائمًا نجاة، بل قد يكون طريقًا آخر للموت. قتلوه ببطء، صلبوه على جدار العذاب حتى أنهكه الألم، لكنه بقي صامدًا حتى آخر لحظة، لم ينكسر، لم يتوسل، بل واجه مصيره كالشجعان.
رحم الله زكريا آبيل، وجعل مقامه في الفردوس الأعلى، وانتقم ممن قتلوه شر انتقام.